بعد توضيح الدليل القرآني الذي يُخاطب العقول،
ويُلزمها بالاعتراف بوجود الخالق المعبود، يبدو القول إن هذا الكون خُلِقَ مصادفة
مِن غير خالق ليس قولاً بعيداً عن الصواب فحسب، بل قول بعيد عن المعقول يُدْخِل
صاحبه في عداد المُخَرِّفين الذين فقدوا عقولهم أو كادوا، فهم يُكابرون في الدليل
الذي لا يجد العقل بُدَّاً من التسليم
به.
لقد وُجِدَ من يقول: "لو جلست سِتة مِن القِردة على آلات كاتبة، وظلت
تضرب على حروفها بلايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي
كتبتها قصيدة من قصائد شكسبير؛ فكذلك الكون الموجود الآن، إنما وُجِدَ نتيجةً
لعمليات عمياء ظلت تدور في المادة لبلايين السنين".
يقول وحيد الدين خان (كتاب الإسلام يتحدى ص66) بعد نقله لهذه الفقرة
من كلام هكسلي (هو الكاتب المُلْحِد الذي كتب كتابه المعروفه "الإنسان يقوم وحده"،
فسَخَّر اللهُ له عالِماً من مِلَّتِه وهو أ. كريستي موريسون، رئيس أكاديمية العلوم
بنيويورك وعضو سابق في المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة،
فسَطَّرَ كتابه القَيِّم "الإنسان لا يقوم وحده" رداً على هكسلي، وقد تُرْجِم هذا
الكتاب تحت عنوان "العِلم يدعو إلى الإيمان"): إن أي كلام مِن هذا القبيل لغْوٌ مثير بكل ما
تحويه هذه الكلمة من معانٍ، فإنَّ جميع علومنا تجهل – إلى يوم الناس هذا – أية
مُصادفة أنتجت واقعاً عظيماً ذا روح عجيبة، في روعة الكون".
وينقل عن عالِم آخر إنكاره لهذه المقالة قوله: "إنَّ القول إن الحياة وُجِدَت نتيجة حادث
اتفاقي شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في
مطبعة".
ويُقرر وحيد الدين خان: "أنَّ الرياضيات التي تُعطينا نُكتة المصادفة، هي نفسها التي تنفي أي
إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون المصادفة".
وخُذ هذا المثال الذي نقله وحيد الدين خان عن العالِم الأمريكي
"كريستي موريسون" يُبَيِّن فيه استحالة القول بوجود الكون
مصادفة.
قال: "لو تناولت عشرة دراهم وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة، ثم
رميتها في جيبك وخلطتها جيداً، ثم حاولت أن تُخرِج مِن الواحد إلى العاشر بالترتيب
العددي بحيث تُلقي كُل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى، فإمكان أن نتناول الدرهم
المكتوب عليه واحد في المحاولة الأولى هو واحد في العشرة، وإمكان أن نُخْرِج
الدراهم مِن 1-10 بالترتيب واحد في عشرة بلايين". (انظر العِلم يدعو إلى الإيمان
ص51).
وعلى ذلك فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة البحتة
والاتفاق؟ إنَّ حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الاحتمال خيالياً يصعُب حسابه،
فضلاً إن كل ما في الكون يحكي أنه إيجاد موجِد حكيم عليم خبير، ولكن الإنسان ظلوم
جهول. قال الله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [سورة عَبَسَ : الآيات 17-29].
كيف يُمكِن أن تتأتى المصادفة في خلق الإنسان وتكوينه، وفي صُنع
طعامه على هذا النحو المُقَدَّر الذي تتشارك فيه الأرض والسماء، وصدق الله في وصفه
للإنسان {إِنَّهُ كَانَ
ظَلُومًا جَهُولا}
[سورة الأحزاب : الآية 72].
كتبه: أ.د. عمر سليمان الأشقر
كلية الشريعة – الجامعة
الأردنية